واكبت الجزائر التطور السريع نحو عالم التقنية ولأجل ذلك اتجهت الحكومة صوب الرقمنة في كافة المجالات، مؤكدة من خلال هذا التوجه الحرص على تبني تحول رقمي فعال يرتكز على استبدال الإجراءات التقليدية الكلاسيكية بأخرى رقمية، ووضعت لأجل ذلك خطط واستراتيجيات لتحقيق هذا الهدف في جميع القطاعات ولم يكن القطاع البيئي في منأى عن هذا التحول على اعتباره قطاع قادر على تحقيق أهداف مجتمعية تجمع بين خلق الثروة، فرص العمل، تحقيق الازدهار وبين حماية المناخ الذي يبقى الرهان الأكبر.
- استراتيجية وطنية للتحول الرقمي في قطاع البيئة!!
وبدأت مظاهر هذا التحول تظهر جليا سنة بعد أخرى من خلال توظيف عدّة مبادرات استباقية تضمن سهولة ومرونة وسرعة تقديم المشاريع والأفكار والخدمات وطرحها أمام مختلف الهيئات الفاعلة في المجال، للمساعدة على تحقيق الأهداف المسطرة سواء في القطاع ككل أو تلك المرتبطة ببرنامج عمل الحكومة بشكل عام.
وضمن مساعي تبسيط الإجراءات أمام الفاعلين في المجال أو الراغبين بالانخراط في مسعى الحكومة الرامي إلى الوصول لسبل الاستفادة من قوة المنصات والأنظمة الرقمية لمواجهة التحديات المقبلة، تم وضع معايير تعزز التفاعل والترابط ضمن نظام رقمي يمكن أن يعزز أثر الرقمنة بالشكل الأمثل في المجتمع الجزائري، حيث خصصت الوزارة الوصية حيزا على موقعها الإلكتروني لطرح آليات عدّة أمام الفاعلين في المجال، إذ يسمح الموقع المحين بالاطلاع على الوثائق والتراخيص والنصوص القانونية والتنظيمية المؤطرة لقطاع البيئة في الجزائر، كما وضعت الوزارة من خلال الموقع أمام حاملي المشاريع في إطار المؤسسات الناشئة والمصغرة في مجال البيئة خلية وزارية للتوجيه والمرافقة خطوة بخطوة لتجسيد مشاريعهم الحامية للبيئة والمحيط، والخادمة للاقتصاد الوطني.
ويمكن القول أن الموقع الإلكتروني لوزارة البيئة www.me.gov.dz قد تحول إلى بوابة إلكترونية تضع أمام المهتمين بالمجال كل ما يسمح لهم بتجسيد مشاريعهم الخاصة بقطاع البيئة على أرض الواقع بما فيها آليات إنشاء مؤسساتهم والدعم الذي يمكنهم الحصول عليه وأيضا آليات تحقيق مشاريع تخص القطاع ويمكن القول أن الموقع أصبح اليوم همزة الوصل بين مختلف المؤسسات والشركات الناشطة في مجال البيئة في الجزائر وما على المهتمين بهذا الميدان إلا اللوج إليه والاستفادة من كمية المعلومات التي تجيب على تساؤلاتهم.
وتحضّر الوزارة في سياق آخر لوضع منصة رقمية مواكبة لأهداف القطاع، توجه هذه المنصة التفاعلية للجمعيات البيئية إذ تسمح بتبادل الخبرات ومشاركة وتعزيز مبادرات المواطنة الإيكولوجية وتشجيعها، وكذا المرافقة والإشراف على الأنشطة الجمعوية البيئية بدعم من قطاع البيئة سواء من خلال المديريات الولائية للبيئة أو المؤسسات التي تقع تحت الوصاية.
- منصات تتحول لأسواق رقمية تختصر الوقت والجهد والمال!
وغير بعيد عن المستوى الرسمي تفرد منصة “روفاداكس” التي تعد مؤسسة ناشئة تنشط في مجال البيئة وبالتحديد تعتبر كسوق رقمي يقوم بتحسين وتطوير آليات التواصل والتنسيق والاتصال بين المستثمرين والصناعيين ورجال الأعمال الفاعلين في قطاع جمع وإعادة رسكلة النفايات القابلة للاسترجاع، المنصة من خلال هذا المشروع تقوم بتقديم الدعم اللوجيستيكي بين هذه الأطراف وبين أسواق العمل المتاحة في الجزائر.
وبالاطلاع على المنصة يتوضح للزائر أن “روفاداكس” www.revadex.com يمكن اعتبارها سوقا رقمية أكثر منها منصة خدماتية، حيث تعتبر همزة وصل بين جامعي النفايات والشركات الناشطة في المجال بالجزائر، مستغلة غياب ثقافة التصنيف لمختلف النفايات لدى عموم المواطنين والشركات على حدّ سواء، الذين قد يغفلون أن النفايات هي بمثابة “كنز” يمكن الاستثمار فيه خاصة على مستوى المراكز التجارية وأماكن الترفيه والأسواق التي يتم التخلي فيها عن النفايات بشكل عشوائي، وذلك عبر خدمة “ريفا بوكس”، وهي خدمة تقدم الحلول الموجهة لمخلفات المكاتب والشركات من خلال اقتراح عمليات جمع وتصنيف وتوجيه هذه المخلفات لإعادة التدوير من جديد، وتخص الورق بمختلف أصنافه، البلاستيك، علب المشروبات والعصائر وأيضا مخلفات حبر آلات الطباعة التي تصنف كنفايات خاصة تحتاج لمعالجة أخرى.
أيضا تتيح المنصة التي يمكن اعتبارها بوابة رقمية، نوعا من التواصل الناجع الذي يختصر الوقت والجهد والمال لتوفير النفايات القابلة لإعادة التدوير والاستعمال من جديد، بعد الاستعمال الأول لها وبعيدا عن فوضى مراكز تجميع النفايات، كما تتيح فضاءا جديدا من النشاط الخالق للثروة والموفر لمناصب الشغل بما أنه يحرك عجلة الاقتصاد الوطني التي كانت إلى وقت قريب خاملة بسبب غياب الفضاءات التي تختصر الجهد والوقت، إذ يمكن اعتبار أن ما جاء به القائمون على منصة “روفاداكس” استثمارا في مجال تسجل فيه الجزائر فراغا كبيرا في السوق الوطنية وكان يدار بأساليب تقليدية أكل عليها الدهر وشرب.
وبعيدا عن الاستثمار المادي الذي تتيحه المنصة أمام الفاعلين في المجال والمهتمين بهذا السوق، فهناك استثماري بيئي هام تروج له هذه المنصة الإلكترونية يتمثل في التخلص من النفايات التي تؤثر سلبا على البيئة والمحيط، خاصة المخلفات البلاستيكية التي تعد سوقا واسع الاستعمال في الجزائر.
- “نظيف” نظام رقمي لرصد مخلفات “المزابل”!!
على صعيد آخر يسمح تطبيق “نظيف” الذي بادرت بإطلاقه الوكالة الوطنية للنفايات بإتاحة الفرصة أمام عموم المواطنين للمساهمة في حماية المحيط والبيئة التي يعيشون فيها، من خلال تقييد شكاويهم حول “المزابل” خاصة العشوائية منها بطريقة فورية وآنية لن تأخذ منهم إلا دقائق معدودة، إذ يكتفي المبلغ بالدخول إلى التطبيق المتوفر للتحميل عبر الهواتف النقالة وأجهزة الكمبيوتر وتحميل صور وفيديوهات حول هذه “المزابل” أو مكبات القمامة ثم تحديد المكان الذي سجلت به هذه المخالفة البيئية وارسالها عبر تطبيق “نظيف” ليقوم المشرفون على التطبيق بالتواصل الفوري مع الأطراف المعنية من الجماعات المحلية وغيرها لمعالجة هذا الاختلال الذي يشوّه المحيط، إضافة إلى ذلك يمكن من خلال التطبيق التبليغ عن كافة التجاوزات المتعلقة بالنفايات سواء انتشار المفارغ العشوائية، توسع النقاط السوداء، التأخر في عملية جمع ورفع النفايات أو نقص الحاويات.
ويقول القائمون على التطبيق والمبادرون بإطلاقه أن هناك نتائج جدّ مرضية حول ما يقدمه بعد قرابة 3 سنوات من إطلاقه، حيث سجل عبر رفع العشرات من “المزابل” العشوائية خاصة بالمدن الكبرى مثمنين سرعة الاستجابة التي تقابل بها الشكاوى من قبل السلطات المحلية سواء مصالح البلديات أو الولايات أو الهيئات التابعة لها، غير أن هؤلاء سجلوا تقصيرا من قبل المواطنين الذين يسمحون بتكرار هذه المخالفات ضدّ البيئة بعد معالجتها ورفع النفايات من المنطقة التي سجلت بها المخالفة وهو أمر يعتبر لحدّ الآن خارج مجال صلاحيتهم التي تقتصر على تقييد الشكوى وإدارة موضوعها مع الأطراف المختصة عن طريق اشعارهم بذلك.
- حملات رّقميّة للنّاشطين البيئيّين
ومع توسع استخدامات الرّقمنة ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت المواطنة البيئيّة في دائرة التأثير على المستوى المحلي ولو أنها ليست بالشكل الكافي إلا أنها تبقى مبادرات تستحق التثمين خاصة وأنها ظهرت كمبادرات وحملات رقميّة فردية يقودها ناشطون شباب عبر الشبكات الاجتماعية لنشر الوعي البيئي وتنظيف المحيط، لتتوسع مع مرور الوقت لأنشطة معترف بها وتجد يدّ المساعدة والدعم الرسمي سواء على مستوى المجالس الشعبية البلدية أو مسؤولي الولاية ففي عدّة ولايات انطلقت هذه المبادرات التي تهدف إلى زرع ثقافة الحفاظ على البيئة في العالم الافتراضي على غرار ما تروجّ له صفحة الدراجة الخضراء، موقع “نوارة” الإلكتروني لحماية البيئة وصفحة AlgeriePropre وغيرهما لتصل هذه المبادرات اليوم إلى مرحلة التجسيد على أرض الواقع وهو ما استقطب العشرات من الأشخاص ممن أصيحوا اليوم ناشطين بيئيين بطموحات أوسع، إذ تقول نعيمة توبدارين ناشطة بيئيّة في تصريح صحفي لموقع “عاجل نيوز” الإخباري أن نشر الوعي البيئي لديها بدأ من خلال تعليقات عن إعجابها بصفحة “الدراجة الخضراء” ثم خوضها لنقاشات مع منخرطين آخرين في الصفحة يعملون على نشر صور تحسيسية وأخرى توعوية تتعلق بالحفاظ على البيئة والتطوع وحملات التنظيف، لتخرج في وقت لاحق هذه المبادرات من الإطار الإلكتروني إلى أرض الواقع حيث تم تأطير عشرات الحملات التوعوية وأخرى تحسيسية حول أهمية المحافظة على البيئة والتطوع في حملات التنظيف التي تقام بين الحين والآخر.
بدوره يقول حمزة غازي أن بداية اهتمامه بالحفاظ على المحيط انطلق من الحوارات والنقاشات التي كانت تطرح وتناقش عبر هذه الافتراضية ما حوّله إلى شخص فوضوي في التعامل مع المحيط والنظافة إلى ناشط بيئي يهتم كجزائري إلى أن تتحول مدينته إلى مصاف الحواضر المتوسطية وهذا لا يأتي إلا إن كان هناك وعي من المواطنين حول ضرورة الاهتمام بالمحيط، البيئة، النفايات وغيرها من المظاهر السلبية التي تؤثر على جمال ولاية الجزائر باعتبارها عاصمة الدولة.
- خبراء يثمنون ويطالبون بالتعميم والتوسع!!
وعن هذه المنصات وأهميتها يقول الخبير في الشأن التكنولوجي والرقمنة، الأستاذ الجامعي عبد القادر منعة في تصريح لموقع “عاجل نيوز” الإخباري، هذه المواقع والتطبيقات والمنصات الإلكترونية الرقمية على اختلافها فقد جاءت لتلعب على عاملي الوقت والمال وتقليص المسافات واختصارها بين الفاعلين في المجال سواء كشركات توفر نفايات قابلة للتدوير والرسلكة أو كمصانع تعاني من صعوبات كبيرة في الحصول على المادة الأولية التي تحتاجها للنشاط.
وأكد منعة أن أهمية التحول الرقمي الذي تقدمه هذه المنصات والمواقع والأرضيات الإلكترونية كبير وطموح خاصة وأنها تقدم حلولا بعيدة عن الطرق الكلاسيكية البائدة التي كانت تعتمد في السابق والتي أثرت على تطور القطاع، مشيرا في السياق أن هذه الطرق الحديثة في المجال يمكنها أن تكون داعما هاما للاقتصاد الوطني والخزينة العمومية من خلال توفير سوق وطني للمواد الأولية التي تكلف سنويا الخزينة أموالا ضخمة بالعملة الصعبة، وأضاف أن سياسة الحكومة في الوقت الراهن هي توفير كافة الجهود والمبادرات لكل ما هو محلي لتقليص فاتورة الاستيراد الضخمة والحدّ من تهريب العملة الصعبة خارج حدود الوطن ولو كانت بطرق قانونية وذلك عبر الاستغلال الأمثل لكل الموارد المتاحة في الجزائر وعلى المستوى المحلي، متسائلا حول الفائدة التي تجنيها الحكومة سنويا من هدرّ للنفايات القابلة للتدوير وهي بالأطنان.
وعاد الخبير ذاته لتوجيه الانتقاد لفئة من الجزائريين خاصة المتخرجين من الجامعات ومعاهد التكوين وهم بالآلاف سنويا والباحثين عن سوق العمل ممن يرفضون الاستثمار بأفكارهم في هذا المجال الواسع والذي يمكنه أن يكون رافدا اقتصاديا خالقا لفرص العمل كما يمكن لهذه الحلول أن تكون كفيلة ببروز صناعة رقمية خالقة للثروة، وأيضا فضاءا لإيجاد الحلول البيئية التي تحتاجها الجزائر ضمن سياستها الاستراتيجية.
ختاما يبقى الرهان اليوم على أن تتوسع هذه الخطط والمبادرات من الحكومة كجهاز تنفيذي وأيضا من قبل القائمين على قطاع البيئة في الجزائر بما فيها الأفراد والمؤسسات غير الحكومية للوصول للهدف المرجو.