نحو تحرير ذاكرتنا بأنفسنا
ذاكرتان متنافرتان تترافقنا معا في مشهد التاريخ والواقع الجزائري والفرنسي: ذاكرة مثخنة بالجراحات والآلام والدماء، وذاكرة تتوارى خلف الضباب ولا تريد أن ترى ما حدث إلا ما بمقدار ما تسمح به المصلحة والوقت.
ذاكرة جزائرية لا تنسى أبدا، وذاكرة فرنسية تضغط من أجل تجاوز حدود الماضي لبناء ما تقول إنه مستقبل مشترك بين الضفتين.
فعلا إنها حرب ذاكرة متواصلة منذ استقلال الجزائر.. لم يطرأ عليها سوى بعض الروتشات وبعض التفاصيل وبعض الخطوات من الجانب الفرنسي.. خطوات تتدفق ببطء في مجرى العلاقات ليست هي الأحسن والأفضل والأنفع بل تقع في خط رفيع يمكن ألا يؤدي في نهاية المطاف إلى انتزاع اعتراف حقيقي يريح الأرواح التي سقطت على أرض هي اليوم تنعم بحرية معززة رغم كل الذي قامت به فرنسا طوال قرن وأكثر من سلب للحرية وقتل وترويع وتجويع وحرق وتدمير.
لفرنسا حنين غامض إلى الجزائر، لا تفصح عنه، تلتف عليه، وتحتاط للحد من تسربه كي لا يعكر المزاج أو يخلط الحسابات الراهنة التي تبني عليها أفق علاقاتها ومصالحها، لم تتجاوز بعد عقدة المستعمر والذي يملك كل شيء عنا.. في عمقه ولا وعيه نحن لم ننتصر وهو لم يهزم أبدا.. نحن لم ننتزع الاستقلال بدمنا وأرواح شهداءنا بل أعطى لنا الحرية بمحبة وأخوة وصدق ولكن على مضض.
لم تكتسب الذاكرة الجزائرية عند فرنسا أية التفاتة حقيقية.. بقيت تتراوح بين تيارات متعصبة وأخرى سلسلة وأخرى تمسك العصا من الوسط وأخرى رافضة تماما.. صحيح أن هناك العشرات بل المئات من الكتب والمراجع والوثائق والمصادر والأفلام وغيرها من الخطوات التي تتقدم بقوة على خرائط ملغمة ولكنها تبقى مجرد مناورات ملتبسة وغير صلدة بحيث لا تقدم أي شيء ذا بال يمكنه أن يفك عقد الاعتراف بما قامت به.
كان لافتا أن تظل الذاكرة عندنا مؤثرة ومتجذرة تتصلب مع مرور الوقت وتتعاظم في النفوس والأذهان، تشهد على ذلك أيضا العشرات من الكتب والأفلام والملتقيات والندوات والأبحاث جماعية أو فردية تحيط بما وقع من أحداث تاريخية مؤلمة، بل انتقلت هذه الفورة إلى الوسائط الاجتماعية حيث تعج بالعديد من الصفحات المخصصة لتاريخ مناطق الوطن وما شهدته من حقائق وبطولات وشهداء ومعارك ومجاهدين واللافت فيها صور نادرة لهؤلاء وأحداث تكاد تنسى، تدار في أغلبها من شباب مهتمين بتفاصيل الثورة المجيدة وهذا بحد ذاته عامل حيوي وإيجابي يدحض الروايات التي تقول بعدم اكتراث هذه الفئة بتاريخ بلادهم.
على الصعيد الرسمي ظلت مسألة الذاكرة مرتبطة بمحاسن ومساوئ اللعبة السياسية، وكانت محل مزايدات خاصة من الجانب الفرنسي، أعدت الجزائر ملفات وملفات مرر بعضها بقوة وكانت مهماز أي تطور بين البلدين، وألقيت أخرى في أدراج النسيان لظروف غامضة ومريبة خاصة في السنوات الأخيرة، حتى ضغطت الجزائر بقوة وأخرجت نابها وخضعت فرنسا وأعادت جماجم شهداءنا في بدايات عهدة الرئيس تبون، واتفقا على تشكيل لجنة علمية ترفع تقرير لما يمكن أن يدفع بالذاكرة إلى الضوء والواجهة بعيدا عن التلاعبات والضغوطات والابتزازات والأفاق الضيقة التي يمكن أن تضبب مسارات المصالحة والاعتراف.
بعد ستين سنة من الاستقلال تبدو ذاكرتنا أكثر انتعاشا ضمن التحولات العالمية المخيفة العابرة للهويات وتحاول إرباكها ومسخها وفسخ كل المقومات التي يمكن أن تقف عليها.. ثمة الكثير الواجب فعله كي نقدر على تفادي الأوضاع الضاغطة عليها سواء ما يأتي من طرف فرنسا أو من غيرها أو حتى من الأطراف التي تعيش بيننا وبه شيء من الحنين لماضي ظاهره حلو ولكنه باطنه قاتل.
ستشكل لحظة الانعتاق من لبوس المستعمر المتخفي في واقعنا اليوم فرصة نادرة كي نحرر ذاكرتنا من المساومات والمزايدات وحتى المقايضات التي تنتهجها فرنسا معنا، وتريد منا القفز وتخطي الماضي دون محاسبة معنوية ومادية عما اقترفته يداها مدة قرن وأكثر.
إن ذاكرة متحررة بيد أبنائها فقط دون غيرهم هي مهمة صعبة ومضنية وشاقة، ولكنها كفيلة بأن تعززنا وتعزز الماضي الذي نفتخر به في حاضرنا وهي التي ستدفعنا إلى المستقبل.
* تنويه: المقال مأخوذ من صفحات التواصل الإجتماعي الرسمية للصحفية.