ليس بعيد عن شارع حسيبة بن بوعلي بالعاصمة الجزائرية، امرأة تفترِش الأرض وتلتحف السماء، تنظر وتنتظر، في هذا الشارع الذي يحمِل بين جنباته الكثير من الأحداث ومن البشر، على مرّ السنوات، كيف لا وهو يحمِل اسم الشهيدة حسيبة رحمها الله ورحم كل شهداء الوطن، وكما يُقال كلّ من اسمِه نصيب، حتى الشّوارع أخذت نصيبها من الأسماء التي رصعتها برِفق، في الزاوية بين ممر النفق نحو ساحة الشهداء، تحمِل تلك المرأة ابنها الصّغير تارة، وتارةً تخطف بعينيها لتغوص في السّيارات والمارّة بلا وجهة محدّدة، يُعطِيها أحدهم خبزا، وآخر دراهِم معدودات، وهي تردّ بلهجة خافِتة وخجولة، “ربّي يكثّرلك رزقك”…
أن تعيش هكذا، “عليك أن تتحلّى بالصّبر مرتين يا أختي”؛ تسرّ تلك السيدة لِمحدّثتها: مرة عندما تتقاذف جسدك الجدران، والمطبّات ثمّ تصدِمك المواقف، والأقدار أيضا، ومرّة عندما تكتشفين في لحظة خاطفة، أن الطريق الذي سلكتيه كان خاطئا، “كثيرا ما نسلِك طرقا صغيرة بحثا عن المخرج، لكن نجد اننا ندور في حلقة مفرغة، تأخذنا نحو الجدار، بلا مخرج”.
تغوص في الحديث، “النّاس لا يقدِّمون ولا يؤخّرون بشيء إلّا ما أراده الله”، كّل ابتلاء هو رزق، كما هي الخيرات؛ أرزاق، نتُوه في الابتلاءات وننسى الأرزاق، فالنّظر رزق والنّور رزق والمطر رزق والأكل رزق، ورؤية الشّجر رزق والهواء النّقي رزق والابتسامة التي تصنعها في وجه النّاس، رزق وأي رزق، وان يرأف القلبُ رزق، وان تدمع العين رزق، كل أذيّة ولو صفعة من صديق كنت تجبر بخاطره في كلّ وقت، هي رزق، والنّكران رزق، حقيقة الناس والأشياء رزق، علينا بتقبُّلها، ومواجهتها، بل والعيش بها، فإن كان البهتان شرّ فالحق المرّ أيضا رزق…
أن تمنَح رزق، وأن تُعطي رزق، وأن توجه انسان لطريق مسألته في لحظة كرب؛ رزق وما أعظمه من رزق، وأن تعطِف رزق، وأن ترحَم رزق، وأن تتعاطف رزق، وأن تفرح لفرح غيرك رزق، وأن تمسح دمعة انسان رزق، وأن تتذكر خير انشان رزق، وأن تتفكّر في الجمال المحيط بك رزق، أن تنظر لكل شيء يتحرك رزق، فقط نحن لا نكتشف ذلك إلا إذا صدمنا بأمر وهممنا بحادثة، نحن لا نتذكّر لأننا انغمسنا في الابتلاءات ونسينا أنّ الكثيرون لم يعرفوا هذه الأرزاق، بل ويتمنون أن يلمسوها، نحن لا نرفض الأرزاق، لكننا نهملها، فمع مرور الزّمن ننساها ، نتغاضى عنها، تصبح مكتسبة، تعوَّدنا عليها، نهمِلُها، نتغاضى عنها كثيرا، نفقِدُ طعمها مع مرور الزّمن، تُصبِح مثل القهوة بالسكّر، مع مرور الزّمن، لا يمكن أن نتلذذ بها، إلا إذا أُجبرنا على شُربها مرُّة، مثلها مثل البشر لا نشعر بوجودهم إلا عند فقدانهم، فعندما تصدمنا الحياة فجأة، نتذّكَّر، ونتفكَّر، لكن إن مازال القلب حيّ ينبض يستشعر، فذلك رزق وأيّ رزق، أن تتلقى دعوة تجبِر خاطر مكسور فهو رِزق.. “حسيبة بن بوعلي” لم تمت فهي أيضا رمز للشجاعة، وعنوان المعافرة اليومية، وهي أيضا رزق.