الإعلام والمسؤولية من التفكك إلى الاشتباك
خلقت بعض وسائل الإعلام، خاصة الموازي، حالة من الانفلات العشوائي لدى الرأي العام الباحث والمتقصي للحقيقة والباطل، الخير والشر، الصدق والكذب، الرمز والفقاعة، الحرية والقمع، أي شيء يمكن أن يشفي الغليل ويعطي مناعة للحسابات الدفينة والمتراكمة التي عششت في النفوس وسكنت العقول، وغدا الواقع بمختلف مكوناته رهين هذه الوسائل، وغدونا كإعلاميين شهودا على كل ما يحدث ويقال ويسرب ويشاع في هذه الوسائل، ولا أحد يعرف الحدود وهو يتلقى الخبر بالصورة أو بالكلمة أو بالصوت، المعلومة ملفقة أو مزيفة أو قريبة من الحقيقة، وهي حدود تكاد تكون منعدمة ولا مسؤولة ودون رقيب أو حسيب.
في كل يوم، بل في كل لحظة، تسيل بين أيدينا الكثير من الأحداث تأخذ في طريقها كل شيء، تتفاقم وتتسارع معها كل الوسائل الخفية والظاهرة، تتفكك وتتحلل وتوضع في سياقات مختلفة متباينة ومتعددة ومتنافرة.
تاريخ مركب
لم يعد الرأي العام معروفا أو معرّفا، بل لكل واحد كما أصبح يقال “جورناله” أو قناة لوحده، أو موقعه الخاص، يكفي أن تدخل العالم الافتراضي حتى تنجر إلى متاهة كبيرة لا نهائية، تتركك ممغنطا ومشدودا لقواها الغامضة والمبهمة، وحينما تخرج منها أو تفلتك تجد أمامك الطريق وقد امتلأ بالأوهام والأحلام المستحيلة.
هذه صورة مركبة ومعقدة تكاد تليق بما يتم صناعته اليوم في وسائل الإعلام الافتراضية منها خاصة.
كان الإعلام في ما مضى بسيطا وسهلا ممتنعا، يكتب الصحفي وهو مقتنع بأنه يسهم في بناء واقع يناسب يومياته، ينقل المعاناة كما يعشيها هو أيضا دون لف ولا دوران أو حسابات ضيقة أو خلفيات منفعية.. كان هناك تواطؤ شريف بينه وبين الإدارة أو الوزارة أو أي مسؤول في الدولة، كان يدير مقالاته أو تحقيقاته بصدق ونية ورغبة عارمة في إيجاد الحلول للمشاكل، كان صوته أشبه بصوت مفتاح للأبواب المغلقة، كانت الخيارات قليلة ولكنها مصيرية تهم بلدا خرج من ويلات مستعمر قاس ومدمر أفرط في تدمير وتخريب الإنسان والأرض.. لعب الصحفي بروح عالية وهو يرى قسوة ما تركه المستعمر الفرنسي هنا وهناك.. كانت المسؤولية جسيمة ولكنها مفيدة لتقوية حضوره في عملية الترميم والبناء.
طوال تلك الحقبة، ظل الصحفي، مثله مثل الطبيب والمعلم والمهندس، بمثابة خطوط التماس المباشرة مع المواطن وعينه وصوته وعقله، صحيح أنها فترة امتازت بالصلابة والفكر الواحد والشعار الواحد والنظرة الواحدة لحزب واحد، ولكنها أسهمت في إرساء الثقة والبساطة والأريحية والطاعة والامتثال لثقافة الدولة القوية كي لا تنفلت الأمور وتنقلب على أعقابها، ومهما نختلف حول قيمة التجارب الإعلامية في تلك الفترة إلا أنها أرست أسس وروح المسؤوليات نحو البلاد والعباد وما تزخر به من تقاليد وأعراف وقيم وأخلاق.
كان يمكن أن يبقى الحال على حاله لولا أن عصفت رياح تغيير جذرية قلبت البلاد رأسا على عقب، سنة 1988، حيث أشرقت البلاد على واقع آخر أريد له أن يكون أكثر انفتاحا وسطوة، ولم يكن الإعلام بعيدا عن هذا التوتر وهذه الطموحات، ليتحول إلى بؤرة أخرى لمـّت أطيافا جديدة وأصواتا ووجوها وأقلاما لامعة، حاولت أن تعطي لجسد الإعلام روحا مختلفة مكثفة وساطعة بالمختلف والنير والمتميز.
حاولت أيضا أن تقترب من المحظورات والممنوعات والخطوط الحمراء، ظنا منها أن هذا قد يساعد على خلق مساحة أخرى من التفرد وإعلام حرّ دون قيد أو شرط. وعلى الرغم من فورة الحماس الذي طبع المشهد الإعلامي بعد أكتوبر 1988، واشتد الاندفاع وانفرط خاصة مع بداية الإرهاب وليل الظلام والموت الذي خيم على سماء الجزائر، وهنا كان لازما على الإعلام أن يقاوم ويكافح بعد أن أصبح الإعلاميون أهدافا سهلة للقنص والقتل والذبح، وهو ما تجلى في عدد من الزملاء السابقين الذين سقطوا شهداء على أرض الخوف والرعب.
سؤال الإعلام وجواب الإرهاب
دخل الإعلام في فترة امتحان صعب ومضن، فالدماء تحولت إلى أنهر، والشوارع والقرى والمدن والأزقة أصبحت سكاكين وقنابل وسيوفا ورصاصا يقض أزيزه المضاجع، استكمل الإعلام خططه في التصدي والحرب بالكلمة والمعلومة والخبر والصورة المتكلمة الناطقة، بالمقابل تعاظمت المسؤولية وغدت أي معلومة أو كلمة يعادل ثمنها الروح أو أكثر.
لم يمنع الإرهاب الإعلام من الوقوع في الكثير من المطبات، حيث اصطف البعض خلف أسوار الإيديولوجيات، وتحول البعض إلى ناطقين رسميين باسمه، وصفى البعض حساباته بطريقة لئيمة مع النظام والجيش، والأسوأ من ذلك ضياع قدسية المهنة وتشتتها في ميدان مضبب.
تداعت محنة الإرهاب الكبرى على البلاد وظلت الأمور تتراوح وتتلاوح، وانقسم المشهد الإعلامي إلى إعلام نزيه ولكنه ضعيف التأثير، وإعلام مسنود بقوى متعددة نافذة يستعمل كأداة هنا وهناك.
أدمن الإعلام دوره المتلبس بفترة الإرهاب العصيبة من تاريخ الجزائر المعاصرة، فقد استوعب أنه مسؤول في معركة سيطر على أرضها سلاح واحد هو التقتيل والتخريب والتدمير، ومهما كانت المعسكرات والأطياف والجماعات التي انضم تحت لوائها إلا أن مصيره ارتبط بمآلات النجاح وإخفاقات الحرب على الإرهاب.
أفول سنوات الصخب الإعلامي
وما لم يكن في الحسبان بعد كل هذه السنوات الصاخبة من عمر الإعلام، عمومي أو خاص، أن يصل إلى مرحلة ركود مستعص ومحير، رغم كل التضحيات والمصائب، وبروز طبقة من ملاك أثرياء لوسائل الإعلام لم يعد يهمهم تقديم إعلام مهني صادق ومحترف ومسؤول.
صحيح أن الأمور تبدو من الظاهر سليمة وصحية، فعدد الجرائد مهول وأضيفت إليها القنوات الخاصة والمواقع الإلكترونية المتناسلة هنا وهناك، ظهرت نجوم إعلامية جديدة وخفتت أخرى، وأقدمت الدولة على ضبط ما تفكك طوال سنوات من خيوط المنسلة المتفسخة في الممارسات غير المهنية التي أضرت بالمشهد الإعلامي، سيرت الأمور بهدوء كي تغربل بدقة كل هذا الغث والسمين والحقيقي والمزيف والمقنع والمتخفي، وأطلقت مبادرات لتحسين الأفق ومسح الغبار المنتشر على زجاج بيوت وسائل الإعلام.
كانت الكثير من القضايا الإعلامية المطروحة طوال سنوات تعج بضجيج السلطة ومعارضيها، وصراعات الزمر وقوى المصالح، وعندما تذهب إلى قضايا المجتمع تجدها تضع يدها في الأعم على تلك المتعلقة بالمعيش اليومي المتهافت والمتسارع.
وفي كثير من المرات تنعدم المسؤولية في التناول والطرح، خاصة عندما يتم الاقتراب من المحظور والمسكوت عنه، فترى الصحفي يلهث ويكتب تحت أنظار مرؤوسيه، وهم يأمرونه بالرفع من منسوب الحدث وتزويقه وتلفيقه وتزيينه ولو بالشائعات والمفتريات والأكاذيب، ولا يهم مصير ما سيحدث .. تحكي إحدى الزميلات الصحفيات أنها في كل يوم يدخل عليها رئيس التحرير يسألها هل هناك حكايا جديدة عن وزيرة سابقة، فتخبره أنه لا يوجد، فيعطيها التعليمات والأوامر باختلاق أي شيء أو خبر أو فضيحة، لا لشيء إلا لرغبة دفينة منه في التكسير والتشويه والحضور اللافت ولو بالوشاية والبهتان، وهو أمر، كما قالت، بعيد عن روح ومسؤولية ما تعلمته من أن الكلمة مقدسة وأمانة وصدق.
من هنا يمكن أن نروي قصص ما كان يحدث داخل أروقة التحرير، مرئية ومسموعة ومكتوبة، أبطالها صحفيون يجرون وراء لقمة العيش مهما كلفهم ذلك من ثمن، ومديرون أو رؤساء تحرير لا يهمهم سوى ما تخلفه هذه القصص من كوارث ومصائب وما ترفعه من نسبة القراء والمتابعين، وما يترتب عن ذلك من إشهار ودعاية تؤتي أكلها بالمزيد من الأموال والمنافع المادية.
مسؤولية الإعلام بين الالتباس أو التحرر
وعندما نأتي اليوم إلى الراهن الإعلامي المنفلت، كما قلنا في بداية المقال، فإن أي تحليل أو رأي أو محاولة لفهم ما يعتمل داخل هذا الفضاء المتسع، سوف لن يصمد وهو يواجه هذا الكم الهائل الضخم من جيوش السوشل ميديا أو من وسائل أخرى تنمو وتتكاثر.
لا أحد بإمكانه اليوم أن يتحكم في سلط إعلامية أخرى تدب كالنمل، ولا تجد من بإمكانه تحمل مسؤولية هذه الثورة الكبيرة التي سوف تهدأ قريبا بالقوانين وبالتشريعات وبالنصوص، ولا سبيل لاحتواء هذه الفتنة الخلاقة إلا بالمزيد من فتح الطريق وتعبيده بالكثير من الحوار الصافي الشفاف المقتدر، واللجوء إلى التكوين والتدريب والتحصين والحماية داخل المؤسسات الإعلامية نفسها، وبثّ قيم وروح المسؤولية، ولن يتم ذلك بالقوة والتخويف والتهديد أو بالردع، بل بالارتهان إلى الشرائع والتقاليد والأخلاق وحسن التدبير، وعدم الخوف من قول الحقيقة والحقيقة فقط دون حسابات أو خلفيات أو تجاذبات.
في نهاية المطاف، الصحفي هو جزء حي وحيوي من منظومة مجتمع يعيش أصعب مراحل تاريخه، تطوره ومستقبله، المتكالب عليها داخليا وخارجيا. الصحفي يحتاج أيضا إلى رعاية وحفظ وإمكانيات كي لا يشتغل تحت الضغط والإكراه، لا بد أن يدرك أنه ليس فقط مسؤولا أمام الكل بل مسؤول أمام ذاته أولا، ومثلما يتمنى الخير لنفسه يتمناه أيضا لغيره، وهنا ترسم الحدود بين الواجب والحق.. الخير والشر.. الصدق والكذب.. المسؤولية واللامسؤولية.
لا يستطيع الصحفي أن يخطو خارج إطار حريته كما يشاء وأنى شاء، ولا أن يعبث بمسؤوليتها بمجرد أن يتملكه الغضب أو يفقد بوصلة الاتجاهات، كما لا تستطيع أي جهة أن تكبل الحرية أو تحجر على الرأي إلا إذا اشتغل كل طرف ضمن أطر قانونية تؤطر للمهنة وترافق المؤسسات الجادة، ليس على المستوى المادي فقط، بل بكل ما هو متاح استغلاله للنهوض بالقطاع، ومن خلاله بالرسالة الملقاة على عاتق الفاعلين في المهنة، خاصة في حماية البلاد في ظرف دولي متسارع يحتاج إلى تكاتف الجميع لحماية الدولة ومؤسساتها أمام أطراف أضحت تستغل الإعلام كقوى ضاغطة، وفي ذلك أسمى حالات المسؤولية التي تبني الحياة والمجتمع ومستقبلهم جميعا دون أي اعتبارات أخرى.
* تنويه: المقال مأخوذ من صفحات التواصل الإجتماعي الرسمية للصحفية.