الحومة ..الحي ..الكارتي ..
تلك المساحات الضيقة الصغيرة الشاهدة على مرورنا ..تلك الحيطان البالية والأدرج القاتمة قد سمعت ضجيج غبطتنا و صراخنا حين بكينا وتألمنا .. تلك المواقع المؤثرة فينا صنعتنا و نحن صغار و بتلينا بحبها و بحب ناسها ، اولئك الذين كنا نجاورهم و نتمسك بهم في الشدائد و الأفراح و نتقاسم معهم رغيف الحياة .
الحومة الزينة ، عالم لا يمكن اختزاله الا بين دفتي كتاب مشرّع على احاسيس النبل و الصداقة و التجاور ، هو عالم واسع جامع لذكرياتنا ، نتذكر عمي ‘سعيد صايفي’ مدرّس الابتدائي لرئيس الحكومة الاسبق ‘مولود حمروش’ كان يصطبح في محفظته صورة مولود حمروش و يشير عليه بإصبعه ، هذا كان تلميذي ! ، نتذكر متجر عمي رابح اللمداني الذي اخافهم في احد الليالي الرمضانية بقرب اجله بسبب المرض و اصطنع حيلة لكي يسدد الجيران ديونهم ..رايح نموت و مانسمحلكمش ! ، عمي امحمد ذو الجسد العليل ، يصبح و يمسي متمايل حاملا قنينته بين اذرعه يصطرخ عاليا يا ربي نجني من هذا اللعين ! ، عمي علاوة بكتاش صاحب النكت المزلزلة حتى و ان غزى الشيب رأسه بقي يحمل بين صدره سمة لشاب المرح ..اتذكر بعضهم كلهم وافتهم المنية تركوا الفراغ الرهيب و لكن قصصهم بقيت متداولة بين ابناء الحي لبوم الناس هذا .
كم هي صعبة الحياة دون ناس يقدرونك و تستأنس بصحبتهم ..رغم ضجيج الحياة الصاخبة ومطبات الحياة الملتوية التواء التمساح في أشد جوعه ، لا مكان أقدر و أكمل من ذاك الذي تركنا فيه شيئا منّا ..أحلامنا بُنيت هنا وذكرياتنا صنعت بين أشجار الجنينة و مساحة ملعب كرة القدم و ثانوية الادريسي ..
لماذا لم نعد نرى الحي بتلك الطريقة التي كنا نراه فيها حينما كنا صغارا ؟ كنا نشاهد الحي متعدد الالوان ..كل شيء أبهى وأجمل و منظّم ..عناية إلاهية لأفكارنا الوردية ..كنا نتابع كل شيء بعين الود و العفوية و البساطة …الآن تغير الذوق وتبدلت رائحة الحنين ، أصبح الحي جزءا من سوداوية المشهد السوريالي للبلد بكامله ..